التصنيفات
قصة قصيرة

أكثر من حلم

عندما وقع سمعي أول مرة على كلماتك .. عرفت أنك لن تكون مجرد محطة في حياتي .. شيء ما في داخلي أخبرني أنك أنت من انتظرته طويلا ليملأ ذلك الفراغ الموحش في أعماقي .. وكأني قد فهمت أخيرا المغزى من قول بشار بن برد : يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة …. والأذن تعشق قبل العين أحيانا ..  في قصائدي دائما اخترت لك صفة الغريب .. لا لأنك غريب عني .. بل لغرابة القدر الذي جمعنا معا .. ارتقت كلماتي .. كما ارتقت مشاعري لتكون لائقة بحب أردتُه أن يكون أفلاطونيا .. كانت مشاعر غريبة وكان حبا فريدا .. وكنت أنت الجاهل لذلك الحب .. الغافل عن مشاعري .. و عذاباتي ..  

حدثت عنك صديقاتي المقربات .. ربما رغبة مني في أن يشاركني جميع الذين أحبهم أفراحي .. لقد كنت بالنسبة إليّ فرحة عمري .. بعضهن استنكر الأمر .. و اعتقدن في البداية أنه مجرد إعجاب أو افتتان لا أكثر .. و ما لبثن أن غيرن ذلك الاعتقاد .. عندما لمسن دفء إحساسي أو ربما بريق عيني الذي كان يبدو واضحا كلما تحدثت عنك ! كنت أتحدث عنك بلا توقف .. أحكي أدق التفاصيل .. كل حركة .. كل خطوة و كل كلمة .. و كن يستمعن إليّ بشغف .. يتحول أحيانا إلى ملل يحاولن إخفاءه حرصا على مشاعري .. عندما أسهب في وصفي .. و أبالغ في أحلامي .. أذكر أن إحداهن قالت لي مرة : “و ما نهاية كل هذا ؟ أعني .. هل تعتقدين أن النهاية ستكون سعيدة ؟” .. فأجبتها متمسكة بأمل كان يتضاءل بمرور الزمن : “من يعلم ؟ ربما هو قدري الذي كتب لي أن ألتقيه !” .. و أذكر أنها ضحكت من جوابي .. ضحكت بسخرية .. لم تقصد منها أن تجرحني .. لكنها أرادت أن توقظني من حلمي المستحيل .. و أن تعيدني معها إلى عالم الواقع ..  

أيقنت في داخلي أنك لن تكون يوما لي .. فالعقبات كثيرة بيننا .. والاختلافات واضحة بين عالمينا .. حتى إن بادلتني الشعور .. فلن تقوى على محاربة ظروفك من أجلي .. و لن أقوى على تحدي عجزي من أجلك .. كنت أعرف هذا .. لكنني لم أتوقف عن التفكير بك .. و التفكير في العالم الذي سيحتويني معك و أحلامي .. تخيلت روعة الحياة التي سأعيشها معك .. اخترت أسماء لأولادي الذين سأنجبهم منك .. و رأيتهم يكبرون أمامي .. و يصبحون رجالا يشبهونك .. و أعتقد أني حصلت على  تلك الحياة التي أردتها و عشتها  هناك في أحلامي ..  صديقة أخرى من صديقاتي .. علّقت عندما عرفت عنك قائلة : “إنها مشاعر جميلة .. ستبقين تذكرينها بالطبع .. و قد تضحكين على نفسك يوما .. لكنها تبقى مميزة .. لأنها أول خبراتك في الحب” .. أردت أن أصحح لها فكرتها الخاطئة .. أن أقول لها إن مشاعري نحوك ليست أية مشاعر عابرة ستزول مع الوقت .. و إنني لن أنساك عند أول منعطف .. لكنني اكتفيت بالاستماع إليها بتعابير باسمة .. لأنها كانت أول  من تفهم وضعي و لم توبخني أو تنعتني بالساذجة ..  

لا أعرف لم تمسكت بك كل تلك الفترة .. كان ذلك القصر الأفلاطوني .. معقل أفكاري .. التي صغتُها قصائد عشقٍ و ترانيم أشواق .. اغتيلت قبل أن تكمل سنوات طفولتها الأولى .. اغتالها اليأس و الحرمان ..  وتحولتُ بين ليلة وضحاها ولا أعرف كيف .. إلى شخص أكثر عقلانية .. ودعت عالم الأحلام الوردية .. و قررت العودة إلى أرض الواقع .. بدأت أنظر إلى الأمور من منظار آخر .. صوّر لي الواقع بطريقة أخرى .. أقل إشراقا .. و أقل إيلاما .. ربما لأنه لا يزيّن الحقائق ويحولها إلى شيء آخر يتناسب مع رغباتي .. فأكون قد كذبت الكذبة على نفسي وصدقتها .. و في لحظة مواجهة .. أكتشف أنني لم أكن أكثر من عاقل يدعي الجهل .. و لا أذكر متى .. صرت بالنسبة إليّ .. لصا .. سرقتني من واقعي .. وألبستني ثوبا من الزيف .. ساعدتني في صنعه .. و نمقته من أجلي .. لتسلبني به عقلي .. و تجعلني معه أسيرة لأوهامي .. و عند لحظة طيش لم تعرف فيها أنني كنت تحت تأثير تنويمك المغناطيسي .. صفعتني صفعة قوية .. استيقظت معها على منظر وجهك الآخر .. الوجه الذي تعمدت عدم النظر نحوه .. و تعلمت قتل فضولي عند الإتيان على ذكره ..  و الذي اخترت بعد مواجهة حقيقته مغادرة قصري الأفلاطوني .. فعدت إلى عالم الواقع الذي كان شرسا و مخيفا بالنسبة إلى و لا يزال .. لكن العيش فيه بكامل وعيي مرغمة .. يظل أقل وطأة من العيش في عالم مثالي مع عصابة على عينيّ برغبتي !! 

و لا أخفيك .. أنني أحيانا كثيرة .. أشعر بحنين جارف إلى ذلك القصر .. فأتسلل و أرتدي ثوبي المنمق .. و أضع تلك العصابة على عيني .. و أقصد قصري الأفلاطوني بشوق محموم .. و أمارس بتحفظ عاداتي التي كنت أمارسها عندما كنت أسكن فيه .. واليوم .. اليوم بالذات .. تحدثت عنك بعد انقطاع طويل .. مع الصديقة نفسها التي عرفَتْ عنك الكثير .. لكثرة القصص التي أخبرتها بها و التي كنت وحدك بطلها .. وبعد أن احتلتُ على ذاكرتي التي كنت قد وعدتها بألا أجهدها بتذكر أي شيء يخصك أو أن آتي على ذكرك في عالم الواقع .. أعادت الصديقة الجملة نفسها التي قالتها عندما أخبرتها عنك أول مرة ..  قالت و الابتسامة نفسها على وجهها : “هي مشاعر جميلة لا أكثر .. لابد أنك تضحكين منها اليوم” .. ولدهشتي قلت ما أردت قوله في ذلك اليوم .. قلت لها بإصرار : “لم أتمكن من الاحتفاظ به أو بصورته الأولى .. علمت في داخلي أنه مستحيل .. و أنه بعيد عني كل البعد .. و لو أن أملا ضئيلا كنت أملكه أو أنه بقي على صورته التي كان عليها عندما –عشقت صوته- لما غادرت قصري الأفلاطوني .. و بقيت فيه حتى آخر رمق .. لكنه ليس لي و لن يكون يوما .. و هي ليست مشاعر جميلة و عابرة .. ليست بالعابرة .. ورغم الصفعات الكثيرة التي تلقيتها .. ولازلت أتلقاها منه .. فهو بالنسبة إليّ .. أكثر من حلم !! 

بواسطة لطيفة الحاج

كاتبة من الإمارات

أضف تعليق